شخابيط وكلام ممكن يكون مهم وممكن يكون فاضي ايا كان فهو كلام خارج من أعماقي
RSS

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014




ثلاث عشرة دقيقة قاتلة, عقارب ساعة تتعثر في السير, فلا أعلم كم من عمر سيفنى حتى تتم دورتها الكاملة, سيل من الأفكار المبعثرة على وجوه المارة, شمس أيلول الساطعة, قضبان الحديد المتهالكة, الكرسي الخشبي المترامي في أحد زوايا مقهى المحطة و الحكايا التي لا تروى إلا على أرصفة السكة الحديد.. مشاهد يومية أنهكتني ولكني أدمنتها.
للأسبوع الثالث على التوالي, وللمرة الثالثة في هذا الأسبوع أجلس مستقبلة القطارات القادمة من المحطات المختلفة, أبحث فيها عن ذلك الوجه المألوف الذي يراودني في أحلامي من شهور عدة, أبحث في الأيادي الممدودة عن تلك اليد التي ستنتشلني من عالم الأفكار المزدحمة إلى عالم الصمت الناطق, تلك الأحلام الطائشة التي تحاصرني في نومي ويقظتي, كيف أصدقها وأسير ورائها كالطفلة المتشبثة في يد أمها,  أضاق الواقع بي فهربت منه لأحلامي,  أم أن أحلامي ترسم الواقع لي كما يحلو لها, أحاديث طويلة تدور في عقلي تأبى التوقف عن الثرثرة حتى ضاق بها عقلي ذرعاً ومللت أنا من الانتظار لساعات طويلة, كدت ألملم أشلائي المبعثرة, وبتنهيدة اليأس الموجعة أودع المكان والأحلام وأرحل, ولكن هناك صوتٌ ما يخبرني ألا أرحل , تحلي بالصبر قليلاً لدقائق أخرى, تحلي بالصبر فبداية الغيث قطرة وقطرة أحلامك إيمانك بها.

-البؤساء! هنا في محطة القطار؟,  لو كان هوجو حياً لأخبرك أن تتركيها وتنظري حولك, 
 فالكثيرين منهم هنا أحياء لا يرزقوا إلا الفتات.
-عفواً,  ولكن من أنت؟
-عذراً,  لقد اقتحمت خلوتك دونما استئذان,  ولكني لم أجد مكاناً شاغراً سوى هذا الكرسي فهلا سمحتي لي بالجلوس؟
-بالطبع , تفضل.
-أحب القراءة ولكني أحب قراءة الوجوه أكثر, الآلام المرسومة على تشققاتها أعمق, الأحزان و الآهات لهم صوت أوضح, الابتسامة لها بريقها الخاص, وقصص الحب موجعة أكثر, أهوى السير في الزحام والأماكن العامة و التحدث مع الغرباء, فللحديث معهم نشوى خاصة, ينتشي قلبي بكلماتهم فتتجدد الدماء في أوردتي فأتنفس بعمق وأعيش ألف حياة وحياة في حكاية واحدة.
-تؤلمني القراءة ولكن قراءة الوجوه تؤلمني أكثر, تقاسيم وجوههم, تفاصيل حركاتهم, نبراتهم المختلفة, وشلالات الدموع السجينة في أعينهم.. تؤلمني,  تؤلمني كثيراً, تذكرني بانتكاسات وطني المستمرة وأوجاعه المتجددة و أخاف الحديث مع الغرباء, فالغرباء يرحلون وأبقى أنا هنا وحيدة.
-الغرباء يرحلون, الأصدقاء يتجددون والأقرباء يرثون, الكل يرحل لا يبقى أحد, الرحيل هو الحقيقة الخالدة التي لا تتغير, تختلف الأمكنة والأزمنة والأشخاص ويبقى الرحيل هو النهاية الموحدة لكل العلاقات
-أخاف رحيلهم وأشتاق إلى رحيلي, سيؤلمني رحيلهم ولن ينتبهوا إلى رحيلي, لن يرثوا مني شيئاً يذكرهم بي فأنا لا أملك سوى بضع كتب.
-ميراث مخزي في بلد جائع, ولكن فلتجعلي الإرث فكرة.
-كيف؟
-اهدي لكل منهم كتاب باسمه, وفي الصفحة الأولى اهديهم بعض الكلمات,  عاتبيهم ولكن سامحيهم, واجهيهم ولكن برفق,  انصحيهم ولكن بلين,  اطلبي منهم السماح وأوصيهم بدعوة لكِ,  وعديهم بلقاء نقي يوم الجمع.
-وأنت ماذا سأهديك ؟
-هل سترحلين؟
-لا, ولكنك بالطبع سوف ترحل.
-كنت على وشك الرحيل, ولكني قررت البقاء.
-البقاء ليس من شيم الغرباء.
-إذن, فلنصبح أصدقاء.
-هم أيضاً يرحلون.
-ولكني سأبقى.
-ولكني سأرحل.
-لن أتركك ترحلين.
-لا أحد يبقى في محطة القطار.
-إذن فلنبقى معاً نودع الراحلين حتى نرحل معاً ويودعنا أبنائنا.
-أتنسج الأحلام في يقظتك وتصدقها؟
-نعم, أصدق أحلامي, أصدقها كثيراً فهي من جاءت بي هنا اليوم.
-أصدق أحلامك, أصدقها كثيراً فأحلامي مثلها جاءت بي هنا كل يوم.